الشهيد حسني حسن الريماوي
من يوميات ثوار “بيت ريما” الأشاوس

خاض معركة حامية الوطيس شهد لها القاصي والداني..

قتلوا جنود الاحتلال ودمروا ثكنتهم العسكرية في”أم سدرة”.. انتصر فيها واستشهد


ولد الشهيد”حسني حسن إبراهيم شاور الريماوي” في بلدة “بيت ريما” عام 1952، وعاش يتيما مع أشقائه وشقيقاته بعدما توفي والدهم حينما كان طفلاً لم يشتد عوده بعد..

أثناء طفولتنا في البلدة كنت أراه فتى متوسط و مُستدق القامة، ومفتول العضلات، وصاحب حركة دؤوبة، ويتسم بصفات لا يملكها أي واحد من أقرانه، كان شهما ومقداما وشجاعا لا يعرف الخوف طريقا إلى صدره وعقله، وذو نخوة فريدة..

أثر النكبة الثانية عليه ونُزوحِه

عندما حدثت نَكبَتِنا الثانية بسبب احتلال إسرائيل لباقي فلسطين في شهر حزيران عام1967، كان يبلغ من العمر (16) ربيعاً في تلك الفترة العصيبة التي حَلّت بشعبنا، وواعيا لم جرى.. ثم نزح مع والدته “لبيبة عساف” وشقيقتيه الصغيرتين أثناء النكبة الثانية إلى الأردن، حيث نقلهم “أبو عوني” ابن البلدة بشاحِنته حتى أوصلهم إلى الحدود الأردنية.. عبروها حتى وصلوا إلى “غور الصافي” .. سكنوا هناك داخل خَيمَة في بادئ الأمر، ومن ثم انتقلوا للعيش في غرفة كبيرة مساحتها (25) مترا مربعا مع أرض أمامها بمساحة (35) مترا مربعا، وتحمل رقم(26/4) في مخيم “الطالبية-زيزيا” الواقع جنوب العاصمة الأردنية “عمان” على الطريق الصحراوي بالقرب من مطار الملكة علياء الدولي للسكن بجوار شقيقيه “عليان” و”حسين” اللذان كانا يعملان هناك.

لم تَمُر على مكوثه هناك فترة وجيزة، حتى صار الأردنيون يطالبونه بضرورة أداء خدمة العَلَم، لكنه أبى، والتحق بإحدى فصائل منظمة التحرير الفلسطينية(الصاعقة) وتدرب في مراكزها التدريبية “بالسلط” على فنون القتال والعمل الفدائي، حيث كان مقر قيادة الثورة الفلسطينية هناك.

الشهيد حسني حسن الريماوي
الشهيد حسني حسن الريماوي



أدرك منذ نعومة أظفاره معنى الوطن والذود عنه

عاش مرارة النكبة، وتشريد شعبنا، وأول انتصار للثورة في الكرامة

فكان من الأوائل الذين التحقوا بالثورة الفلسطينية و لَبّوا نداء الواجب..

خلال هذه الفترة عقد ممثلو المنظمات الفلسطينية اتفاقا بتاريخ 24 أيار عام 1968 أقروا فيه مبدأ توحيد جهودهم.. وتوحيد التنظيمات الفدائية في تنظيم مُوَحَّد لتحقيق وحدة العمل الفدائي والثورة الفلسطينية. هذه الخطوة ساعدت على ضم جميع المنظمات المقاتلة ضمن إطار قيادة الكفاح المسلح الفلسطيني.

على إثر ذلك، حصرت المنظمات المتعددة كل نشاطاتها العسكرية تحت اسمَين، هما: “العاصفة” وهي الجناح العسكري لحركة التحرير الوطني الفلسطيني، و”الصاعقة” طلائع حرب التحرير الشعبية..

وقد نصت المادة التاسعة في الميثاق الوطني الفلسطيني- الذي صدر عن الدورة الرابعة عام 1968- “على أن الكفاح المسلح، هو الطريق الوحيد لتحرير فلسطين……”

لقد عاش الشهيد النكبة الثانية بمرارتها وحالة التشريد الثانية لشعبنا، وكذلك هذه المرحلة الوحدوية الهامة لكفاح شعبنا الفلسطيني ضد الاحتلال الصهيوني، بالإضافة إلى أول انتصار للفدائيين على الجيش الصهيوني في معركة “الكَرامة” التي حدثت بتاريخ21/3/1968م عندما توحّد الدم الفلسطيني الأردني الأمر الذي زاد الثورة الفلسطينية عنفوانا وقوة على الصعيدين العربي والعالمي ناهيكم عن الصعيد المحلي، كما ازداد تسابق الشباب الفلسطيني على الانضمام إلى الثورة الفلسطينية تجسيدا عملياً لما جاء في الميثاق الوطني المذكور آنفا وإصرارا على تحرير الوطن..

وقد أدرك الشهيد منذ نعومة أظفاره معنى الوطن والذود عنه فما كان نُزوحَه إلا سببا للانضمام إلى صفوف الثورة والدفاع عن تراب وطنه المسلوب، مضافا إلى ذلك أنه عاصر كل هذه التطورات المُتَسارعة في تاريخ قضيتنا.. لذا كان الشهيد من الأوائل الذين التحقوا بالثورة الفلسطينية و لَبّوا نداء الواجب..

كان قائداً لمجموعة فدائية رغم صغر سِنِهِ..

شكلت مصدر رعب لقوات الاحتلال والمتعاونين

بعد الانتهاء من التدريب العسكري الفدائي- كما ذكرت آنفا- ازدادت قوته وتفَولَذت رجولته، وكان يُكلف بتنفيذ العمليات الفدائية البطولية داخل الوطن انطلاقا من الأراضي الأردنية.. حتى صار قائدا لمجموعة فدائية ضاربة بالرغم من صغر سنه، ورغم ظروف اليُتّم التي لم تسنح له إكمال تعليمه المدرسي، إلا أن الحياة النضالية كانت مدرسته الأولى والأخيرة فكان متفوقا فيها..

وطيلة عمله في صفوف الثورة كان غالبا يتسلّل خِلسة مع مجموعته من الأردن ويأتي خِفْيةً إلى بلدته “بيت ريما” مسقط رأسه في فلسطين يتجول في جبالها وكهوفها ثم يعود رغم المخاطر المحيطة.. ويُحَمِّل رفاق السلاح ثمار البَطيخ، وقطوف الموز من الأغوار الفلسطينية لوالدته وشقيقتيه في المخيم ليأكلن من خيرات وهدايا تراب فلسطين، وكي يُعلِمهُنَ بأنه عاد من غزواته صقر الصقور منتصرا وبسلام هو ومجموعته..

عرفته جبال وكهوف وكروم العنب وبساتين الزيتون في “بيت ريما” والأحراش المحيطة

كان أسد في الليل والنهار، ومن الرجال الأشداء

لقد عرفت جبال وكهوف وكروم العنب وبساتين الزيتون في “بيت ريما” والأحراش المحيطة بها رجالا أشداء, أسودا في الليل والنهار.. كانت مجموعته مُكلّفة بِشَن هجمات داخل الوطن وضربات أفرادها المفاجئة والجريئة وحركتهم النشطة بقيادة الشهيد”حسني” شكلت مصدر رعب ورهبة لقوات الاحتلال الصهيوني والمتعاونين معها.. لكن يجب أن لا ننسى بأن الفدائيين كانوا محاطين بسياج من المساعدين الأهالي والفدائيين داخل الوطن يُخفون تحركاتهم ويرشدونهم, ويقدمون لهم الأكل والماء والعلاج ويزودونهم بالمعلومات عن مواقع جيش الاحتلال وتحركاته، ثم يعودون سالمين إلى قواعدهم في الأردن..

آخر زياراته لأمه.. أخذ منها خاتماً ذهبيا للذكرى

قبل استشهاده بيوم رأته أمه في منامها، وماذا قال لها؟

في آخر زيارة لأمه أخذ منها خاتما ذهبيا زَيّن به أصبعه، وقد أعربت له أمه عن خوفها من ضياع الخاتم منه أثناء عملياته البطولية!! إلا أنه آثر أن يحتفظ به كذكرى من والدته يلازمه أينما ذهب.. ثم غادرها مودعا ومتوجها إلى قواعده الفدائية، وهو يقول لها:” نفعتك في الدنيا وسأنفعك في الآخرة يا أمي!!” فكانت تتعجب من تكرار هذه الجملة لها دائما..

قبل استشهاده بيوم رأته أمه في منامها عندما زارها طيفه.. كان وجهه مشرقاً، وقال لها: “ستكونين يا أمي من النساء اللاتي سَيدخلن الجنة بإذن الله.. ثم ذهب مبتسما وهو يُلوّح لها بيديه مودعا”.. وعندما حاولت والدته أن تلوِّح له بيديها وتحضنه استَيقَظَت من منامها..

لحظة تنفيذ العملية البطولية قبل الاستشهاد

في إحدى الليالي الصيفية المُقمِرة خلال شهر حزيران عام 1969 كَلفت القيادة مجموعته المكونة من(11) فدائيا مقاتلا تقريبا بقيادته بتنفيذ عملية فدائية ضد جنود الاحتلال وثكناته العسكرية داخل فلسطين.. وقد كانت في غاية من السِرّية وتم التكتم عليها، ولم يُبلّغ الشهيد أحدا من أهله عنها، وكان عمره حينئذ (17) ربيعاً، توجه مع مجموعته التي كان يتقدمها تحت جنح الظلام.. تعاهدوا على الاستشهاد في سبيل فلسطين، ثم أقسموا القسم وساروا متتابعين خلف هذا الفدائي الهُمام، ثم انطلقوا حتى وصلوا “النهر” الفاصل بين فلسطين والأردن.. عَبرَ الجزء الأكبر من المجموعة مياه النهر باتجاه الغور الفلسطيني غربا.. تسلّلوا حتى دخلوا الحدود الفلسطينية بمساعدة فدائيين داخل الوطن فيما أبقى الشهيد الجزء القليل منهم شرقاً خارج النهر من ناحية الأردن لحمايتهم بعد تنفيذ العملية وتغطية انسحابهم بسرعة إلى حافة النهر بين الأدغال الملاصقة والمشاطئة له على ضفتيه الشرقية والغربية..

كان الشهيد يتقدم مجموعته بِجَسارَة النَّمِر الذي يترصّد فريسته.. مُشمّرا عن ذراعيه حتى المِرفقين ويرتدي بِزَّته الفدائية العسكرية ذات اللون الأخضر الفاتح مع قبعة عسكرية مُرقَّطة على رأسه عليها شعار “الصاعقة”، وحذاءه العسكري، وتلتف حول عنقه الكوفية الفلسطينية، ومدجج بسلاحه الرشاش من نوع كلاشنكوف، وقنابل يدوية، وقذائف أر.بي.جيه، ويو.إي. كي، وتحزّم بالقنابل وسلاحه وعتاده على كتفيه استعدادا للمواجهة الفاصلة مع العدو، وكذلك باقي أفراد مجموعته..

الوصية

قطع قطف موز من أرض فلسطين هدية لأمه

بعد عبور أفراد المجموعة مياه النهر باتجاه فلسطين كما ذكرت، تواروا عن الأنظار في الأدغال، والمزارع، والبَيّارات..هنا قَطعَ الشهيد بِحَربَتِه قطف موز وخبأه، ثم قال: سآخذ هذا القطف إلى أمي حال عودتنا بعد تنفيذ العملية، وأما إذا استشهدت أوصيكم يا رفاق السلاح بأن تأخذوه معكم إلى والدتي هدية لها من أرض فلسطين.. كما أوصيكم بأن تدفنوا جثماني في مقبرة الشهداء بجانب أصدقائي الذين سبقوني!! وأن ترسلوا جثماني إلى أمي وشقيقتي، وشقيقي وأهلي في المخيم لرؤيتي ووداعي.

عندما اقتربت المجموعة من ثكنة عسكرية صهيونية في منطقة ” أم سدرة” الواقعة شمال الأغوار الفلسطينية في منطقة “لبقيعة” القريبة من جسر دامية وجنوب شرق بلدة “طوباس” بفلسطين- ويمتاز هذا الموقع العسكري بسيطرته على منطقة “النَهر”- أمَرَ الشهيد أفراد المجموعة بأن يزحفوا على بطونهم تارة، وأن يسيروا بحذر على أقدامهم تارة أخرى أثناء تقدمهم حتى وصلوها، كَمِنَت المجموعة وبدأت تترصّد الموقع وتَستَجليه.. وقد سُميت العملية البطولية باسم الموقع..

خاض معركة حامية الوطيس شَهِد لها القاصي والداني..

قتلوا الجنود ودمروا الثكنة.. انتصر فيها، واستشهد

طلب الشهيد من أفراد المجموعة تغطيته من الخلف أثناء هجومه عليها مع عدد من أفراد مجموعته.. اقتربوا من الثكنة حتى أصبحت في مرمى نيرانهم.. فتحوا النار تجاه جنود الاحتلال وأمطروهم بِزَخّات من الرصاص والقنابل دون وَجل من عددهم فأردوهم قتلى داخل ثكنتهم، حيث تم قتل جميع من فيها، أي ما يقارب (15) جنديا صهيونيا أو ما يزيد، كما دمروا الموقع العسكري عن بِكرة أبيه.. وظل متابعا قصفه واقتحامه ببسالة حتى يتحقق من القضاء على كل جنود العدو والاستيلاء على أسلحتهم.. وهو يُقَبِّل خاتم أمه الذهبي المُلتف حول أحد أصابع يديه، ويردد أُغنية: “لَكتِب اسمك يا أمي على كعب البارودي” بين الفينة والأخرى، كأنه يُودع أمه بتقبيله للخاتم والغناء لها بطريقة عفوية والرصاص يزغرد بين يديه ابتهاجا بالانتصار..

وقد خاض ومجموعته معركة حامية الوطيس شهد لها القاصي والداني, وأثنائها نفدت ذخيرة الرصاص من رشاش الشهيد فنهض عن الأرض بقامته لتبديل ذخيرته – وهو لا يعلم بوجود بعض الجرحى بين القتلى ما زال حيا، يبدو أن ضابط الثكنة كان جريحا في إحدى ساقيه وتظاهر بأنه مَيِّت بين القتلى- وعندما انتَصبَ الشهيد “حسني” وإذا بهذا الضابط يباغته بإطلاق نار نحوه من سلاحه فأصابه بعيار ناري قاتل في صدره اخترق قلبه واستشهد على الفور.. تقدم أفراد مجموعته بسرعة نحو هذا الضابط الصهيوني وأجهزوا عليه في الحال، ثم جَرّدوا جميع جنود العدو القتلى أسلحتهم.. عندما هدأ وسَجا تبادل إطلاق الرصاص حملوا الشهيد “حسني” على أكفهم وانسحبوا بسرعة به صَوبَ مواقعهم في الأردن قبل وصول تعزيزات الصهاينة، كما حملوا معهم قطف الموز الذي خبأه كهدية لوالدته..

تسليم الجثمان مع قطف الموز

في اليوم التالي مع اقتراب صلاة الظهر أوصلوا جثمانه الطاهر في تابوت ملفوف بالعلم الفلسطيني إلى منزله في مخيم ” الطالبية- زيزيا”.. سَلّموا قطف الموز: وقالوا: هذا القطف هدية من أرض فلسطين أوصى به الشهيد لأمه وشقيقتيه ثم كشفوا عن وجهه- وهو أول شهيد يُكشف عن وجهه لذويه – كانت بِزّته الفدائية مخضّبة بدمائه التي سالت من صدره، وخيط دم ينزّ من فمه ويسير سير السواني على خده الأيسر ثم يَحُط على عنقه وصدره، وكان جبينه يتصبب عرقاً، وعاد مُشَمِراً عن ساعديه كهيئَتِه قبل تنفيذ العملية، وتلتف حول ياقة قميصه ربطة عنق بلون الكوفية الفلسطينية كرمز للفدائيين..

أثناء وداع البطل

والدته لم تجد خاتمها الذهبي في أصابع يَدَي فلذة كَبِدها!!

لقد فُجعت والدته عليه، وهاضها الحزن أثناء وداعه لكنها لم ترتدي السِّلابَ في عرس شهادته، وطلبت مواراة جثمانه الطاهر في مقبرة المخيم وهي لا تعلم بوصية الشهيد!! كما أنها لم تجد خاتمها الذهبي في أصابع يَدَي فلذة كَبِدها؟؟ يبدو أنه سُرق منه بعد استشهاده للأسف الشديد؟؟ طبعا أفراد مجموعته لم يتركوا هذه الفِعْلَة تَمرُ بدون ملاحقة.. وبعد البحث والتقصي تمكّن أفراد المجموعة من العثور على السارق، وقاموا بتصفيته جسديا ويدعى(ع)..

نعود إلى لحظة وداعه الأخير من قبل الأقارب والأحبة والثوار والقيادة حيث وَدَّعوه وداع الأبطال ثم صلّوا عليه في مسجد المخيم، وضعوا جثمانه الطاهر الملفوف بالعلم الفلسطيني والمغطى بباقات الورود داخل سيارة جيب تابعة للفدائيين، وجلست والدته وشقيقتاه بجواره، ثم سارت في مقدمة الموكب، وانطلقت جنازته المَهِيبة من داخل المخيم..

تَوَقُف ماتور السيارة عندما حاولوا التوجه بالجثمان إلى مقبرة عكس وصيته

عندما وصلت السيارة التي كانت تحمله مفرق المخيم متجهة نحو مقبرة المخيم الواقعة على يمينه.. توقف ماتورها عن الحركة فجأة؟ أما مقبرة الشهداء فتقع على شِماله.. حاول سائقها تشغيله عدة مرات ولم يفلح.. أمرغريب!! نزل منها تفحص الماتور عدة مرات.. سأل السائق شقيق الشهيد “عليان” حيث كان يجلس بجواره: “لا يكون الشهيد أوصى بشيء وأنتم غيّرتم الوَصية.. لأن المركبة لا يوجد فيها خلل؟”، وحاول عدد من المرافقين بدفعها من الخلف علّها تشتغل.. لكنها بقيت على حالها..

في تلك اللحظة اقترب أفراد مجموعته نحو السيارة بسرعة، وأبلغوا السائق بأن الشهيد أوصى بدفنه في مقبرة الشهداء “أم الحيران” الواقعة على شِمال المخيم التي خصصها الرئيس الراحل ياسر عرفات لشهداء الثورة.. فقال السائق: “إذاً بسم الله إلى مقبرة الشهداء”، وصعد إلى السيارة.. جلس خلف المِقوَد..عندما شَغّل السيارة.. اشتغلت ثانية وسار موكب الجنازة وعرسه الوطني الذي غصّ بالسيارات والمرافقين والمجموعات الفدائية والمسؤولين وامتد لمسافة ثلاثة كيلومترات من المخيم حتى المقبرة وسط الأعلام والهتافات الوطنية وإطلاق النار الكثيف.. وقد حضرت الشخصيات القيادية لمنظمة التحرير الرئيس الراحل ياسر عرفات، والراحل “أبو جهاد”، والراحل “أبو إياد” وغيرهم من القيادات لإلقاء نظرة الوداع الأخيرة وتم إطلاق عدة طلقات تحية وداع للشهيد ووضع أكاليل الزهور و مواراة جثمانه الطاهر الثرى و بهيئته كما كُلِم بجوار أصحابه كما أوصى.. وتم فتح بيت عزاء له بعمان لمدة ثلاثة أيام في منزل الدكتور قاسم الريماوي.

تزامن عرس ابن عمه مع عرس استشهاده

نعود إلى بلدة “بيت ريما” في هذه الأثناء كانت بداية موسم التين والعنب، والناس منهمكون في جَني ثمارهم.. وأذكر في تلك الفترة عندما جاء “فرج عبد الرحمن الريماوي” ابن البلدة قائد المجموعة الـفدائية(101) التابعة لحركة فتح في منطقة بني زيد إلى والده “عبد الرحمن” وأخبره بأمر استشهاد “حسني الريماوي” واستشاره في الأمر حَولَ، هل بإمكانه إبلاغ عائلة الشهيد أم لا، وما العمل؟..

لقد كانت عائلة الشهيد في ذاك التاريخ تُحضّر لزواج ابن عمه “جهاد صالح” من شقيقتي “خولة “، فطلب والده منه أن يذهب لإبلاغ عَم العريس”صلاح الريماوي” فورا لأن الشهيد والعريس من نفس العائلة.. ذهب “فرج” إلى عَم العريس وأبلغه النبأ، ثم ذهب الاثنان معا إلى والد العريس”صالح الريماوي”، و قال له شقيقه:” دَبّر حالك يا أخي.. وروح أحضر عروستكم فورا قبل انتشار الخبر!!!”.. جاء “صالح شاورالريماوي” والد العريس يَحُث الخُطى مساءً إلى والدي وأبلغه بأنهم يريدون إتمام العرس بأقصى سرعة في اليوم التالي، و بدون حِنّاء ولا غِناء، ولا فَرَح لأن ابن عمهم استشهد، وقبل ما تعلم بالخبر أسرة الشهيد، كما طلب أيضا جعل الخبر طَي الكِتمان حتى ينتهي العرس..هكذا اتفقا..

في صباح اليوم التالي ذهبت شقيقتي العروس “خولة” إلى رام الله، واشترت جهازها على السريع مكون من: طقمين، وجلبابين مع سِوار وخاتم ذهبيين ثم عادت إلى البلدة، وجاءت قريبتنا “مايزة” التي كانت متخصصة في تلبيس العرائس وجَهّزتها..

الفرح الحزين

العُرس الصامت.. وعرس الوطن

عندما مالت الشمس إلى الغروب حضر أقرباء العريس بمن فيهم أسرة الشهيد التي لم تعرف بالنبأ بعد لأخذ عروسهم.. أمسك أخي”فضل” وابن أختي “محمود” شقيقتي العروس من ذراعيها واصطحباها مشياً على الأقدام لمسافة كيلومترين إلى منزل عريسها، كأنهم في مسيرة صامتة، وبدون زفّة عريس، يلفها السكون، وقد غاب عنها هذا المشهد التراثي الذي كانت فيه تُزيّن الفَرس، ويمتطيها العريس، ويلتف من حوله كل الأقارب والمحبون وهم يرددون الأهازيج الشعبية في لوحة تراثية جميلة، لكن في هذا اليوم اختفت هذه المراسم من ثقافتنا الشعبية احتراما وإجلالا وإكبارا لروح الشهيد.. لأول مرة صار الزواج صامتاً!! مما أثار استغراب الناس وفتح شهيتهم للأسئلة..

حالما وصلت العروس بيت العريس.. صَمدوها على الصَبة أمام المنزل.. حاولت الحاجة “صالحة” خالة العريس أن تزغرد.. أسكتتها النساء فورا.. صارت تسأل.. لماذا.. لماذا أسكت.. اليوم عرس ابن أختي؟ خلاص اسكتي ما في داعي نُفسّر لك.. نهرتها بعض النسوة بنبرة حادة!!..التفت النساء حول العروس المصمودة لوحدها.. والعريس مهموم يبكي ابن عمه.. الذي تزامن عرسهما معا.. عُرس الشهادة بالعُرس الاجتماعي..

كان هذا اليوم له وجهان.. وجه مُفرح ووجهه الآخر حزين.. نَصَّفَه الحزن والفرح إلى نصفين.. ولم تعرف النساء ماذا تقول للعريس.. أتقول مبروك زواجك يا ولد العم؟ أم عظّم الله أجركم، ويرحم ما فقدتم.. إن شاء الله يكون مثواه الجنة مع الشهداء والصديقين؟؟؟ وتشجعت امرأة، وقالت: سأزغرد للعريسين معا “عريس خَولة، وعريس الشهادة”، ولا تهِنوا ولا تحزنوا أيها الأقرباء..اليوم عُرس الوطن..

ثم عاد والد العريس- شيخ العائلة- إلى منزل “ابن عمه” عبد الحافظ ” على وجه السرعة بحثوا الأمر هناك وابلغهم نبأ استشهاد ابن عمهم “حسني” أثناء قيامه بعملية بطولية على الحدود.. وتم في صباح اليوم التالي من العُرس الإعلان من خلال مؤذن المسجد عن الاستشهاد، وفتحوا بيتا للعزاء أمَّته وفود لا تُعَد ولا تُحصى من أحرار شعبنا..

قصة بَطَل لم يأخذ حقه من التوثيق

هذه هي قصة أحد أبطال “بيت ريما” الأشاوس الذين صدقوا الوعد مع الله والوطن وما بدلوا تبديلا، الذين دفعوا حياتهم ثمنا لفلسطين ولأهل فلسطين، ولم يأخذ حقه الكافي من التوثيق وإبراز

وإظهار دوره البطولي وتخليده في أدبيات الثورة للأسف الشديد. أتمنى أن أكون- بهذا العمل المتواضع- قد أوفيت لك جزءاً من حقك حتى تتعرف عليك الأجيال الصاعدة. وأنا مدرك بأنني مهما كتبت عنك وعن بطولاتك ويومياتك الخالدة في التاريخ لن أوفيك حقك ما حييت.
الكاتب: نصير أحمد الريماوي